الأحد

مـــالـــك بن نبي رحمه الله الذي أهملناه

العبقري الجزائري - الأستاذ مـــالـــك بن نبي رحمه الله - الذي أهملناه و أهملنا فكره

ولد مالك بن نبيسنة 1905م بقسنطينة ، وكان والده يشغل منصباً بسيطاً لدى الإدارة الحكوميةالإستعمارية الفرنسية بمدينة تبسة ، وهي المدينة التي أصبحت مقر الأسرة ، ومهد نشأةوترعرع بن نبي ، كانت أمه تشتغل بالخياطة قصد المساهمة في رفع المستوى المعيشيوالاقتصادي للأسرة ، فقد كانت غالبية الأَُسَر الجزائرية في تلك الفترة الزمنيةتعاني شظف العيش إلى جانب البؤس والحرمان ، جراء ما فرضته سلطات الاحتلال علىالأهالي والسكان من إجراءات ومعاملات قاسية ؛ أُدخِل مالك بن نبي " الكُتّاب " لتعلّم وحفظ القرآن الكريم ومباديء الحساب واللغة العربية ، غير أنه ما لبث إلاّقليلا حتى انتظم في المدرسة الفرنسية ، لكنه ظل يتردد باستمرار على الكتّاب ، وكذلكعلى المسجد العتيق ، وحضور أوقات الصلاة.
لوحظ على بن نبي - الطفل - ميلطافح ، بل ولع ظاهر ، إزاء حب التعلم والتعلق بالقراءة) المطالعة ) ، حتى أنه كان يتلقى دروساإضافية ( تكوين داعم أو خاص ) في النحو والصرف والبلاغة والثقافة العربية ، على يدشيخ يدعى " عبد المجيد " كما كان حريصا على الاستفادة من الدروس والحلقات العلميةالتي تدار في المساجد.
يقول الدكتور علي القريشي يصف هذه المرحلة في حياةبن نبي : " لقد أخذت آفاق ابن نبي تتسع في هذه المرحلة سواء عن طريق قراءاتهالكثيرة أو مشاهداته الشخصية ، خاصة أن متابعته للصحف كانت تزيد من وعيه بتمزقاتالواقع الاجتماعي. أما مشاعره الانتمائية فكانت تتجه نحو رجل الاصلاح المعروف الشيخعبد الحميد بن باديس ، خاصة وقد زُرع هذا الميل في نفسه منذ كان صغيراً وهو يراهيقف في الشارع يحدّث الناس ، كما تميز سلوكه في هذه المرحلة بالميل الى الصمت ،وإيثار الوحدة على الاجتماع ، لكن إحساسه بآلام الواقع الذي فرضته الظروفالاستعمارية كان كبيراً ، لذا حين نشبت ثورة الريف اندفع يشارك رفاقه كتابةَوإلصاقَ النداءات والبيانات المناوئة للمستعمِر المحتل. "
ســــفــره إلىفـــرنــســـا :
في شهر سبتمبر1930م نزل مالك بن نبي بمحطة ليون (Lyon ) بباريس ، وكانأول عمل قام به هو التسجيل بمعهد " الدراسات الشرقية " غير أنه لم يُوفّق فيالانتساب لهذا المعهد. وقد حزّ ذلك كثيراَ في نفسه ، لسبب بسيط وموضوعي بتمثل فيكون دواعي ذلك الرفض لا يخضع لأي معيار من المعايير التي سبق وأعلنها معهد الدراساتالشرقية ، وعن هذه الحادثة يقول بن نبي " لم يتم قبولي بالمعهد ،لأن الإنتسابللمعهد بالنسبة لمسلم جزائري لا يخضع لمقياس علمي ، وإنما لمقياس سياسي ".. لكن بننبي وُفّق في الدخول الى " مدرسة اللاسلكي " لدراسة الهندسة الكهربائية ، وفي الحياللاتيني الذي كان يقيم به العرب والمغاربة خاصة ، كان بن نبي يجدّ في نشر الوعيالصحيح ، لاسيما فيما يتعلق بالاصلاح والبناء الحضاري والوحدة المغاربية ـ من منطلقدعوة الشمال الإفريقي للتكتل ضد الاستعمار ـ بل والوحدة الإسلامية الشاملة ، التيوجد بن نبي فيما بعد في صيغة استراتيجيا " دول عدم الإنحياز " تمهيداً لها أوتحقيقاً جزئياً ومرحلياً لبعض أهدافها ، لكن من منظور استراتيجي آني ، كما يتضح ذلكعلى الأقل في كتابين للأستاذ بن نبي ، الكتاب الأول " الفكرة الإفريقية الآسيوية " والثاني " فكرة كومنولث إسلامي " .
في فرنسا أيضا أتيح له التعرف علىالعديد من الزعماء والفلاسفة والمفكرين ، كما توطدت صلته ببعض رموز الاصلاح والدعوةوالعلم ، كان أبرزهم الشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز ، الذي أنجز أطروحة جامعية فيالسوربون ، بعنوان " دستور الأخلاق في القرآن " وهي مطبوعة في كتاب ضخم . كما قابلفي سنة 1936م الوفد الجزائري الذي ذهب إلى باريس ليطالب السلطات الفرنسية بالمشاركةالبرلمانية ، وكان على رأس هذا الوفد الشيخان المصلحان عبد الحميد بن باديس والبشيرالإبراهيمي.
ولم تنحصر جهود بن نبي التربوية والاصلاحية والفكرية علىمنطقة باريس لوحدها ، بل كثيراً ما كان يسعى لتوسيع دائرة تلك الجهود ، منها علىسبيل المثال ، إقدامه على فتح مدرسة في الجنوب الفرنسي لمحو الأمية وتعليم العمالالجزائريين المغتربين؛ واعتراض السلطات الفرنسية على ذلك ، لكن بحجج واهية مفضوحة. يقول عنها بن نبي " وفي سنة 1938م أسست بمدينة مرسيليا مدرسة للأميين في سن متقدممن بين إخواننا العمال المشتغلين بفرنسا ، فدعتني الإدارة المختصة ومنعتني من أواصلالتدريس في هذا المعهد البسيط بدعوى أنه ليس لديّ المؤهلات !! "
وقد انخرط بن نبي في جمعية فرنسية – الشباب المسيحي – و بفكره النير استطاع أن يدخل عدد كبير من الشباب الفرنسي إلى الإسلام فطردوه من الجمعية – هكذا يكون الإنسان المسلم مؤثر لا يتأثر – و قد تزوج من فرنسية .
رحـــــلـــتــه إلى مـــصـــر:
التعرف على الشرق العربي والإسلامي كان أملا يراود مالك بن نبيمنذ مراحل وعيه الأولى ، فهو يذكر بأنه ـ منذ صباه وشبابه المبكر ـ نوى السفروالتعرف على بعض الأقطار والمدائن الإسلامية ، مثل : جدة ( السعودية ) وتومبكتو ( مالي ) ـ وهي مدينة لعبت دوراً حيوياً في نشر الإسلام في إفريقيا ما وراء الصحراء ـوأفغانستان وباكستان وأندونيسيا ومصر ...الخ.
خلال سنة 1956م سافر بن نبيإلى مصر ، حيث أتيح له التعرف عن قرب على زعمائها السياسيين والإصلاحيين من كتابومفكرين ونحوهم ، ويبدو أن بعض دوائر الجهات الرسمية أدركت أهمية طروحاته الفكريةفراحت تتقرب منه ، وتتفاعل مع نشاطه الفكري والسياسي ، كما تمكن أيضا من التعاون معبعض قادة ثورة التحرير الجزائرية ممن كانوا يقدمون إسهاماتهم النضالية من القاهرة ،وتعدّ مرحلة بن نبي القاهرية من أخصب مراحل حياته ، فخلالها أنجز العديد منالدراسات الفكرية مثل " شروط النهضة " و" مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي " .. غير أن ما ميز هذه المرحلة هو ترجمة بعض مؤلفاته إلى اللغة العربية ، لأنه يكتبأساساً باللغة الفرنسية التي يجيدها أكثر من أي لغة أخرى ، وذلك بفضل بعض تلاميذهومريدي فكره ، لذلك ينبغي أن نذكر ـ من باب الأمانة التاريخية العلمية ـ أنالمشارقة هم مكتشفو القيمة المنهجية والبنائية لفكر بن نبي ، ومن أبرز هؤلاءالمريدين الذين أصبحوا فيما بعد من رموز الاصلاح والعلم والتغيير في أقطارهم ، نذكرالمؤرخ علي الغتيت ( من مصر ) و المحامي الشهير عمر كامل مسقاوي ( من لبنان ) والمفكر واللغوي الدكتور عبد الصبور شاهين ( من مصر أيضا ) والأديب الدكتور عبدالسلام الهراس ( من المغرب ) ورشيد بن عيسى( من الجزائر ) تلميذ مالك فقد جاء الى الجزائر عام 1990 و القى عدة محاضرات قيمة ، فهو أستاذ جامعي بجامعة السربون و قد كان نائب رئيس اليونسكو وقدم استقالته نيتجة عدم نزاهة هذه المنظمة العالمية اتجاه حقوق المسلمين ، و هو ممنوع من الدخول الجزائر … الخ.
وفي هذهالمرحلة أيضا التقى بن نبي بالعديد من القادة والزعماء ممن عُرف عنهم النضالوالتصدي للإستعمار والعمل من أجل تحقيق الاستقلال والكرامة للإنسان والأوطان ، كانمنهم الزعيم الصيني شو آن لاي ( chou en lai ) ، والزعيم الهندي جواهرلال نهرو ( nehru ) والزعيم المصري جمال عبد الناصر .. وغيرهم .
ولايجوز أن ننسى ـونحن نتحدث عن مرحلة بن نبي المصرية ـ إدارته للعديد من المناقشات والسجالاتالفكرية ، مع أبرز مفكري وعلماء مصر ، أمثال الشيخ محمد أبو زهرة ، والدكتورمحمدعبد الله دراز ، والكاتب الإسلامي الشهيرالشهيد سيد قطب ، وما تزال النخبة الثقافيةفي مصر تتذكر هذه المرحلة ، وتكتب عنها العديد من الصفحات ، كمناظرة بن نبي وسيدقطب حول مفهوم الحضارة والمدنية ، وكذا تأثير فكر بن نبي في العديد من أصحابالأقلام الذين كانوا ينتبذون بفكرهم جهة اليسار أو يعيشون حالة من الشك والاضطرابالمنهجي والمفاهيمي ، ومن أشهر هؤلاء الكتاب ، الطبيب المفكر" مصطفى محمود " . فلاغرو أن نجد الدكتور عبد الحليم عويس يقول عن هذه القضية : " أصرح بأن الفكر الذييمكن أن يُعزى إليه قيادة مصطفى محمود إلى الإسلام هو فكر أستاذنا مالك بن نبي..فمالك بن نبي ـ ذلك المفكر الإسلامي الجزائري الكبير ـ قد تمكن من خلال كتبهالرائدة العظيمة : شروط النهضة ، الظاهرة القرآنية ، مشكلة الثقافة ، في مهبالمعركة ، وغيرها ، قد تمكن من تكوين جيل من المثقفين الإسلاميين ولاسيما في مصروالجزائر.. " ( من كتابه : العقل المسلم في مرحلة الصراع الفكري . ص 106 ) … و من أقوال الشيخ العلامة محمد الغزالي ـ الذي تعرف على بن نبي في القاهرة في لقاء خاص ببيتالمؤرخ علي الغتيت ـ شهادته في بن نبي ، وهي شهادة تنحو منحى ما ذكره الدكتور عويس .

الـــمــرحـــلــة الأخـــيــرة مــن حـــيــاة بــن نـــبـــي:
في سنة 1963م عاد الأستاذمالك بن نبي إلى الجزائر ، بعد عدة سنوات قضاها في مصر والمشرق العربي ، حيث تقلدمناصب كثيرة منها : مستشار التعليم العالي ، ومدير جامعة الجزائر ، و وزير التعليمالعالي ، غير أنه ولظروف أحاطت به ، استقال سنة 1967م ، ليتفرغ تفرغا كاملا للعملالفكري ، وتنظيم الندوات ، وإلقاء المحاضرات ، كما اهتدى إلى تأسيس ملتقى الفكرالإسلامي ، الذي كان يُعقد أسبوعيا في بيته ، وكان يؤمه كثير من الشباب من الجزائروالبلاد العربية وأوروبا ؛ وقد تبنت السلطات الجزائرية في ذلك الوقت ، فكرة هذاالملتقى ، فأصبح يُعقد سنوياً ، وقد اشتهرت به الجزائر ، إذ كان تظاهرة فكريةثقافية فريدة من نوعها ، حتى أصبحت الرحال تُشد إليه ، لنوعية المحاضرات التي تلقىفي رحابه ومستوى العلماء والمفكرين والإعلاميين الذين يحضرون أشغاله . وظل كذلك حتىأقبلت السنوات العجاف ، ودخلت الجزائر في مفازة من الفوضى ، بسبب فتنة سياسية بغيضةمؤلمة ، فتوقف هذا الملتقى العظيم الذي كان بحق جامعة إسلامية فكرية متنقلة .
ظل بن نبي دؤوباً في عمله الفكري ، وتأليف الكتب القيمة ، كما بدأ يجدّ فيتعلم اللغة العربية ، حتى أتقنها ، فكان أول كتابألفه باللغة العربية هو كتاب " الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة" ،كما أكملمذكراته " شاهد القرن " أيضا باللغة العربية ، و لانستبعد أن يكون بن نبي ، قدكتب العديد من مؤلفاته المفقودة بلغة الضاد.. ومنذ حلول العام الميلادي 1973 بدأيشعر بإرهاق عام يسري في أوصاله ، وما يكاد يختفي حتى يعود من جديد ، وفي يوم 31أكتوبر 1973 أسلم الروح الطاهرة لبارئها الكريم ، فحزنت الجزائر على فقده و ودعتهالجماهير إلى مثواه الأخير.. رحمه الله وطيّب ثراه وجعل الجنة مثوه… لكن أفكارهالبديعة ، التي تشبه في عمقها وترتيبها ، نظام المعادلات الرياضية ، استمر إشعاعهاوتأثيرها ، حتى اليهود(كيان بني صهيون أراد خطفه مرتين للاستفادة من عبقريته ، و فكره يدرس بالجامعات الاسرائيلية و بمعاملات تصل الى 7) تفطنوا لأفكار بن نبي ، حيث أُنجزت حوله أطروحات جامعية ،نوقشت في بعض جامعات " إسرائيل " !!وربما جاز لي القول بأن المثقفين الجزائريين همأقل الجميع اهتماما بأفكار هذا الرجل العبقري الذي لانكاد نعثر له على نظير من بينمفكري الأمة الإسلامية.. وصدق العرب القدماء الذين كانوا يقولون ( أزهد الناس فيالعالِم أهلُه وجيرانُه)
آثــار مـــالـــك بـــن نــبــي الــفــكــريـــة :


خلّف بن نبي تراثاً فكرياً ، أعتُبر فريداً ومتميزاً في مجال تصوير الأزمةالحضارية لدى المسلمين ، وتجسيد الأوهام والعراقيل التي تعوق المجتمع الإسلاميالمعاصر ، وتحول دون إقلاعه الحضاري المرتقب ، واستئناف دوره الرسالي في الشهودالحضاري ، ذلك الدور العظيم الذي توقف ، وفقد جميع عناصره المشعة ، بل ضمرت فعاليته، حتى على مستوى الذات منذ انقضاء عهد الموحدين . وتراث بن نبي الفكري قسمان. يتمثلالقسم الأول في المؤلفات المطبوعة المشهورة ، بينما يتمثل القسم الثاني في المؤلفاتالتي ما تزال مفقودة إلى يومنا هذا.

أ ـ الـــمــؤلــفــات الــمــطبــوعــة :
1ـالظاهرة القرآنية
2ـ شروط النهضة
3ـ حديث في البناء الجديد
4ـالإسلام والديمقراطية ( يوجد ضمن كتاب تأملات في طبعته الجديدة)
5ـ مشكلةالأفكار في العالم الإسلامي
6ـ مذكرات شاهد القرن ( الطفل + الطالب)
7ـ ميلاد مجتمع
8ـ أثر المستشرقين في الفكر الإسلاميالحديث
9 ـ المسلم في عالم الاقتصاد
10ـ فكرة كومنولثإسلامي
11 ـ في مهب المعركة
12 ـ مشكلة الثقافة
13ـ بينالرشاد والتيه
14 ـ تأملات
15 ـ لبيك ( وهي الرواية الوحيدة التيكتبها بن نبي ولم تترجم للعربية بعدُ)
16 ـ وجهة العالم الإسلامي ( هذاالكتاب نُشر بعنوان: نداء الإسلام ، كما نُشر بعنوان : مستقبل الإسلام ، أي أن لهثلاث ترجمات على الأقل)
17 ـ النجدة : الشعب الجزائري يُباد ( وهو رسالةصغيرة كتبها في القاهرة ، مساهمة منه في كشف جرائم الإبادة التي تعرض لها الشعب الجزائري على يد الاحتلال الفرنسي)
18 ـ دور المسلم ورسالته في الثلثالأخير من القرن العشرين
19 ـ الفكرة الإفريقية الآسيوية
20 ـ الصراعالفكري في البلاد المستعمَرةب ـ الـــمــؤلــفــات الــمــفـقــودة:
21 ـ دولةمجتمع إسلامي
22 ـ العفن أو( الغسيل ) ( هو الجزء الثالث من مذكرات شاهدالقرن)
23 ـ خطاب مفتوح لخروتشوف ( رئيس الاتحاد السوفياتي آنذاك )
24 ـ نموذج المنهجالثوري
25 ـ المشكلة اليهودية
26 ـ اليهودية أم النصرانية
27 ـ دراسة حول النصرانية
28 ـ العلاقات الاجتماعية وأثر الدين فيها
29 ـ مجالس دمشق ( وهي مجموعة من المحاضرات والمسامرات الفكرية قدمها في دمشق)
30 ـ مجالس تفكير ( مجموعة من الدروس والتحليلات الفكرية أدارها في بيتهقبل وفاته)
العبقري – الذي سبق زمانه بمئات السنين – الأستاذ مالك بن نبي ( رحمه الله تعالى) و سامح
الشباب الجزائري لإهمالهم لمثل هذا المفكر العظيم الذي كل العالم يعرفه إلا المثقفين الجزائريين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق