الثلاثاء

علماء السنة في تلمسان الشيخ المقري التلمساني

علماء السنة في تلمسان الشيخ المقري التلمساني
العلامة الإمام أحمد بن محمد بن أحمد المقري المكنى بأبي العباس والملقب بشهاب الدين المقري:

ولد بتلمسان سنة 986 هجرية، وأصل أسرته من قرية مقرة - بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة -.

أما عن صلة الأسرة بتلمسان وصلته هو بها فقد قال (في المجلد السابع): "وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة 1009 ثم رجعت إليها آخر عام 1010 ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة 1013 إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة 1027... " .

إذن فإن أبا العباس المقري نشأ بتلمسان وطلب العلم فيها، وكان من أهم شيوخه التلمسانيين عمه الشيخ سعيد المقري، ولما فارقها إلى فاس كان في حدود الرابعة والعشرين من عمره، وفي فاس مضى يطلب العلم على شيوخها إلى أن حل فيها الفقيه إبراهيم بن محمد الآيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، فأعجب بالمقري الشاب واصطحبه معه إلى مراكش وقدمه إلى السلطان، وهناك التقى بابن القاضي وبأحمد باب التنبكي صاحب نيل الابتهاج وبغيرهما من علماء مراكش وأدبائها وكانت هذه الرحلة مادة كتابه "روضة الآس" الذي أخذ في كتابته حين عودته إلى فاس ومنها إلى بلده تلمسان، ليقدمه إلى السلطان المنصور، ولكن السلطان توفي (سنة 1012) والمقري ما يزال في بلده. ومع ذلك فإن الهجرة من تلمسان كانت قد ملكت عليه تفكيره فلم يلبث أن غادر مسقط رأسه نهائياً إلى فاس (1013) وأقام فيها حوالي خمسة عشر عاماً .

يقول في النفح: "وارتحلت منها إلى فاس حيث ملك الأشراف ممتد الرواق فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها " .

والحق أن المقري أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال في المغرب بعد وفاة المنصور الذهبي وصراع أبنائه على الحكم، وتعرض مدينة فاس نفسها لأعمال المد والجزر في تلك الظروف المتقلبة، كل ذلك لم يكن يكفل للقاطنين فيها شيئاً من الهدوء؛ ولم تكن بلاد المغرب حينئذ فريسة للأطماع الداخلية وحسب، بل تعرضت لغزوات الأسبان والبرتغاليين، وفي سنة 1016 كان المقري يشهد -عن كثب- انقطاع آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس حين تفرقت الجالية الأندلسية تطلب لها مأوى في سلا وتونس وغيرهما من البلاد المغربية؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات كان الأسبان (الإصبنيول) يستولون على مدينة العرائش في المغرب بمواطأة الشيخ المأمون أحد أبناء المنصور؛ ولقي هذا العمل استنكاراً من الناس، فلجأ الشيخ إلى الفقهاء ليفتوه في الأمر: لقد كان هو لاجئاً عند صاحب إسبانيا يطلب منه المعونة فوعده بها لقاء إعطائه العرائش، وما سمح له بمغادرة بلاد إسبانيا إلا بعد أن قدم له أولاده رهينة حتى يفي بوعده. فهل من حقه أن يفدي أولاده بهذا الثغر أم لا؟

وكان هذا السؤال امتحانا عسيرا للمتذممين من المفتين، ولذلك هرب جماعة منهم واختفوا عن الأنظار، وكان المقري واحدا من أولئك الذين لجأوا إلى الاختفاء.

غير أن هذه الحادثة لم تدفع بالمقري إلى مغادرة فاس، بل بقي فيها عدة سنوات أخرى، أحرز فيها منصب الإفتاء رسميا بعد وفاة شيخه محمد الهواري (1022).

فهل ثمة من سبب مباشر دفعه إلى الرحلة عنها؟

يقول الأستاذ محمد حجي متابعا السيد الجنحاني: "وكان خروج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى قبيلة شراكة (شراقة) في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي فارتحل إلى الشرق... الخ " ؛ ولكن المصادر لا تذكر شيئا عن هذا السبب، وكل ما قاله المقري نفسه " ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز "، بل إنه استأذن عبد الله بن شيخ نفسه في السفر، فأذن له. غير أن إلصاق التهمة به ليس مستبعداً، فقد كان المقري عند هذا السلطان خيلت لبعض سكان تلك المدينة أن المقري ضالع مع سلطانه ومع تلك القبيلة نفسها ضد الفاسيين. وبغير ذلك - أو ما يشبهه - لا يمكن أن نفسر عدم عودة المقري إلى المغرب، مع شدة حنينه إلى وطنه وقسوة ما لقيه في الترحال، وخاصة ما لحقه من المضايقات أثناء وجوده في مصر.

وفي أواخر رمضان عام 1027 غادر مدينة فاس متوجهاً إلى المشرق فوصل تطوان (تطاون) في ذي القعدة من ذلك العام، ومن هناك ركب السفينة التي عرجت به على تونس وسوسة حتى وصلت الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحراً، فوصل مكة في ذي القعدة من العام التالي وبقي فيها بعد العمرة ينتظر موسم الحج، ومنها توجه إلى المدينة ثم عاد إلى مصر (محرم 1029) وفي شهر ربيع زار بيت المقدس وأخذ يتردد إلى مكة والمدينة حتى كان في عام 1037 قد زار مكة خمس مرات والمدينة سبع مرات، وقد أوفى هذا الجانب تفصيلاً في كتابه ((نفح الطيب))، قال: ((وحصلت لي بالمجاورة فيها مكة المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضاءت تلك الأنوار، وألفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع... ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة 1037 للهجرة)).

وفي أوائل رجب من العام المذكور قصد إلى زيارة بيت المقدس، فبلغه أواسط رجب وأقام فيه نحو خمسة وعشرين يوماً، وألقى عدة دروس بالأقصى والصخرة، وزار مقام الخليل إبراهيم ومزارات أخرى، وفي منتصف شعبان عزم على التوجه إلى دمشق، وهناك تلقاه المغاربة وأنزلوه في مكان لا يليق به، فأرسل إليه الأديب أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجمقمقية، فلما شاهدها أعجبته وتحول إليها ؛ وقد أسهب في ذكر حاله بدمشق وما تلقاه به أهلها من حسن المعاملة، ويكفي هنا أن ننقل بعض ما قاله المحبي : ((وأملى صحيح البخاري بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح، ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع، تجاه القبة المعروفة بالباعونية، وحضره غالب أعيان علماء دمشق، وأما الطلبة فلم يتخلف منهم أحد، وكان يوم ختمة حافلاً جداً، اجتمع فيه الألوف من الناس، وعلت الأضواء بالبكاء، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن، إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعيات من رجب وشعبان ورمضان، وأتي له بكرسي الوعظ فصعد عليه، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا ً، وتكلم على ترجمة البخاري وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشري رمضان سنة 1037، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس)). وكانت إقامته بدمشق دون الأربعين يوماً، وقد خرج جمهور كبير من علمائها وأعيانها في وداعه، عندما اعتزم العودة إلى مصر.

وفي شوال من العام نفسه كان بمدينة غزة، فنزل فيها ضيفاً على الشيخ الغصين، وكانت للمقري مكانة عند أمير غزة، فسأله تلميذه الشيخ عبد القادر ابن الشيخ الغصين أن يتوسط لدى الأمير بأن يسمح له ببناء بيت ببعض رحاب المسجد (إذ كانت دار الغصين بعيدة عن المسجد وكانت مهمته أن يقرأ ويقرئ في المسجد نفسه) فقال له المقري: لا بد من حضورك معي عند الدخول على الأمير، فلما دخلا عليه قدم المقري للأمير مقدمات في فضل بناء المساجد والمدارس، ثم أنني على الشيخ عبد القادر، وقال له: إنه من أهل العلم وليس ببلدكم مثله، وأراد أن تأذنوا له في بناء المساجد يقرأ فيه ويقرئ، فقال الباشا: مثلك لا يليق له البناء في المسجد ولكن هنا موضع نحبسه عليك - وهو موضع المدرسة - فكان إنشاء تلك المدرسة بفضل وساطة المقري؛ وقص الشيخ عبد القادر أيضاً حكاية تدل على تواضع المقري أثناء إقامته بغزة، وذلك أن الشيخ الغصين قال له: ((يا سيدي أحمد إنا نشتهي الطعام المسمى عند المغاربة بالكسكس فهل في أصحابكم من يحسن صنعه؟)) فما كان من المقري إلا أن صنعه لهم بنفسه؛ وكان عبد القادر يحتفظ بنسخة من كتاب شيخه المقري المسمى ((إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة)) وعليها تعليقات بخط المؤلف قيدها لدى مروره بمدينة غزة في تلك السفرة.

عاد المقري إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، وكان أثناء إقامته الطويلة بمصر قد تزوج امرأة من عائلة السادة الوفائية، رزق منها بنتاً، توفيت عام 1038، ويبدو أن العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن موشحة بالوفاق، مما اضطره إلى تطليقها؛ وقد زادت هذه الحادثة من تنغيص حياته بمصر، ويقول الخفاجي: إنه وجد بمصر الحسد والنفاق، وتجارة الآداب ليس لها بسوقها نفاق، وفيما كان يزمع الهجرة من مصر ليستطون الشام، وافته منيته في جمادي الآخرة سنة 1041.

من مؤلفاته رحمه الله تعالى :

1- روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، ألفه حوالي 1011 - 1012 ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي (طبع بالمطبعة الملكية بالرباط عام 1946 بتحقيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور).

2 - أزهار الرياض في أخبار عياض، ألفه أثناء إقامته بفاس 1013 - 1027 ولم يطبع منه إلا ثلاثة أجزاء بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي (القاهرة 1939 - 1942).

3 - إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة، منظومة بدأ بتأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة 1629 ودرسها في الحرمين الشريفين، وأتمها في القاهرة سنة 1630، وقد قال عبد القادر الغصين إنه كان السبب في تأليفها، قال: " فإني كنت أقرأ عليه صغر الشيخ السنوسي بمصر، فسألنا منه نظماً في العقائد، فكان كلما قرأ درساً نظمه فيقرأه غداً كذلك إلى أن ختمه " وكانت عند عبد القادر نسخة منها عليها تعليقات للمقري، ومن جملة ما كتبه على حاشيتها، عند قوله: "وكان إتمامي له في القاهرة" : " هو جملة التاريخ لأن عدة حروفة بالجمل 1036 وكتب المقري في آخر تلك النسخة ما نصه: " يقول مؤلف هذه العقيدة العبد الفقير أحمد المقري المالكي - جبره الله- إني صححت هذه النسخة جهد استطاعتي وأصلحت فيها ما عثرت عليه.

4- إدحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى، كان يدرس السنوسية لطلبته بمصر (ومن شرحه لها نسختان بالخزانة الملكية بالرباط رقم 3544، 5928).

5 - أجوبة على مسائل أرسلها إليه أستاذه محمد بن أبي بكر الدلائي سماها "أعمال الذهن والفكر في المسائل المتنوعة الأجناس..." (توجد ضمن كتاب البدور الضاوية بخزانة الرباط).

6 - حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي (ذكرها المحبي واليواقيت).

7 - عرف النشق من أخبار دمشق (ذكره المحبي، ولعله كان مشروعاً لم يتم).

8- شرح مقدمة ابن خلدون (ذكره حاجي خليفة 2: 106).

9 - قطف المهتصر في شرح المختصر، شرح على حاشية مختصر خليل (ذكره المحبي).

10- فتح المتعال في مدح النعال (طبع بالهند) .

11 - وكان المقري قد ختم كتابه السابق برجز في النعال الشريفة ثم أفرده في نسخة بعث بها إلى شيخه الدلائي (المخطوط رقم 565 بالخزانة العامة بالرباط) ولعله المسمى "النفحات العنبرية في نعل خير البرية" .

12 - وللمقري أراجيز كثيرة أخرى منها "أزهار الكمامة في شرف العمامة" (الخزانة العامة بالرباط؛ المخطوطة 984د).

13 - والدر الثمين في أسماء الهادي الأمين (ذكره المحبي واليواقيت).

14 - ورجز "نيل المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط" (مخطوطة الرباط 2878 ك)

15 - البلدة والنشأة (ذكره المحبي واليواقيت).

16 - الغث والسمين والرث والثمين (ذكره في اليواقيت).

17 - حسن الثنا في العفو عمن جنى (طبع بمصر في 47 ص؛ دون تاريخ).

18 - الأصفياء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالة بعث بها إلى المقري).

19 - الشفاء في بديع الاكتفاء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالته).

20- القواعد السرية في حل مشكلات الشجرة النعمانية.

21 - النمط الأكمل في ذكر المستقبل.

22 - أرجوزة في الإمامة.

23 - نظم في علم الجدول (ذكره في اليواقيت).

24 - وذكر في النفح أنه كان يزمع تأليف كتاب في تلمسان يسميه: ((أنواء نيسان في أنباء تلمسان)) ويبدو أنه لم يحقق ذلك.

25 - شرح له على قصيدة ((سبحان من قسم الحظوظ)) (ذكره في اليواقيت).

26 - ونسبت له المصادر كتاب ((الجمان من مختصر أخبار الزمان)) إلا أن الأستاذ الجنحاني يشك في نسبة هذا الكتاب إليه.

27 - رسالة ((إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة)) (ذكرها في النفح 3: 457 ولعله لم يفردها).

28 - وأخيراً كتاب ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) الأكثر شهرة في هذا العصر.

وبعد، فلعلي أن أكون قد أديت إلى أهل مقرة الذين أحبوهم بما أملك من جهد جاهد يدا لا أسألهم غبر صالح الدعاء، ولعلي أن أكون بإخراج هذه الترجمة من حقبة النسيان وعلى هذا الوجه قد نشرت حلة من حلل الفخار والمجد التي حاكتها صناع من أيدي أسلافنا الأمجاد كانت طويت في مدارج الإهمال، ولعلي أن أكون قد كتبت بهذه وريقات صفحة جديدة في صفحات البر بآبائنا الذين نعتز بهم ونفاخر العالم بما أسدوا إليه من حسنات .

والحمد لله أولا وآخرا عليه توكلي واعتمادي وحده لا شريك له، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

هناك تعليق واحد:

  1. حقق الأستاذ بدر المقري - أحد أحفاد أبي العباس أحمد بن محمد المقري- كتاب " أزهار الكمامة في أخبار العمامة " ضمن رسائل دكتوراه السلك الثالث في كلية الآداب و العلوم الأنسانية بجامعة محمد الأول في وجدة ''المغرب'' سنة 1993 تحت اشراف الدكتور محمد بن شريفة " جامعة محمد الخامس بالرباط".

    ردحذف